خبير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات
ha@menagurus.com
المتابع للحكومة المصرية الحالية لابد ان يلاحظ الاهتمام الكبير الذي توليه لبرامج التحول الرقمي ومحاولة تطوير الكثير من الخدمات الحكومية المختلفة حتي تتم إلكترونيا وبالذات بعد جائحة كورونا وما استتبعها من اغلاق وتباعد اجتماعي ولكن وبصفتي احد رواد قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وشاركت علي مدار الثلاث عقود الماضية في مشروعات حكومية شتي للتحول الرقمي فقد كنت دائما اتوقف امام حقيقة عدم وجود إرادة سياسية حقيقة وراء تنفيذ هذه المشروعات.
والمقصود هنا بالإرادة السياسية هي اليقين الذي لا يهتز عند متخذ القرار ان التحول الرقمي هو الطريق الوحيد لتطوير الاعمال وانه بدون رقمنة كاملة (وحط الف خط تحت كاملة) لكل خطوات الخدمة فإننا لن ننجح ابدا في تطوير اعمال الجهاز البيروقراطي العتيد وتقديم خدمة حديثة ومحترمة وبدون فساد للمواطن المصري.
من هذا المنطلق ، فقد تابعت بكل اهتمام مشروع وزارة الصحة الطموح لتطعيم المصريين ضد فيروس كورونا وقد اثار اعجابي سهولة التسجيل علي الموقع الاليكتروني بمنتهي اليسر والبساطة والوضوح وعدم طلب بينات غريبة او صعب الحصول عليها فقط بطاقة الرقم القومي ورقم المحمول ثم تصلك خلال خمس دقائق رسالة تأكيد انه تم تسجيلك وبها كود الطلب. خدمة ممتازة يجب ان نهنئ عليها القائمين علي الموقع حتي وان كان الضغط الكبير قد اخرج الموقع في بعض الأوقات من الخدمة وهذا متوقع في مشروع قومي يخاطب الملايين ولكن تم تدارك الامر سريعا وعاد الموقع للعمل وانتظم التسجيل.
بعد التسجيل بأسبوعين وصلتتني رسالة نصية على المحمول بموعد تلقي الجرعة الاولي ومكان التطعيم (احد المراكز الصحية بالقطامية) رسالة بسيطة وواضحة “هشام موعد حصولك علي الجرعة الاولي يوم كذا في المكان الفلاني” جميل جدا اهلا بالتحول الرقمي وسهولة تنفيذ الاعمال… ايوه كده…
في اليوم المحدد توجهت الي مكان المركز الصحي في منطقة بعيدة بالقطامية (ياريت نبقي نبعت في الرسالة لوكيشن لمكان التطعيم من فضلكم) استقبلتني “مدام صافي” الممرضة واطلعت على الرسالة ثم فوجئت انها تكتب اسمي في كشف علي ورقة امامها وتعطيني قطعة ورق صغيرة مقصوصة وعليها رقم كتبته بيدها وقالت لي انتظر في الاستقبال حتي يقوم “عم عبده” بالنداء علي رقمك للاستكمال الإجراءات!!! هكذا في لحظة خاطفة انتهت الرقمنة وعدنا للواقع المظلم واقع “عم عبده ومدام صافي”….
انتظرت دوري لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات والوسيلة الوحيدة المتاحة لمتابعة الدور هي سؤال “مدام صافي” أو ترقب صياح “عم عبده” بالأرقام الموعودة. اخيرا جاء دوري، دخلت حجرة نظيفة بها 3 سيدات يعملن علي أجهزة لابتوب حديثة وأجهزة سكانر متطورة أجلستني احدهن امامها ثم اخذت صورة بالسكانر من البطاقة والشهادات الطبية التي تثبت حالتي الصحية واضافتها علي السجل الخاص بي علي الموقع ثم فوجئت بها تناولني كارت من الورق المقوي الذي سوف يقوم الطبيب باستكمال بيناته يدويا واعتماده بعد تحديد نوع التطعيم الملائم لحالتي الصحية!!! عندها اكتشفت ان الرقمنة في هذا المشروع القومي الكبير قاصرة فقط علي التسجيل اما باقي الخطوات فهي يدوية كالعادة…
دخلت للطبيب الذي قام بإعطائي ورقتان مطبوعتان متطابقتان عليهما مجموعة من الأسئلة الصحية اجابتها نعم ولا.. اجبت عليها ثم اضفت بيناتي الشخصية وتوقيعي ونقلت الإجابات للورقة الثانية وبعد المناقشة حدد لي الطبيب نوع التطعيم المناسب لحالتي وكتب اسمه علي الورقتان وانتقلت لحجرة الممرضة التي اخذت نسخة من الورقتان وأعطتني اللقاح في كتفي وكتبت موعد الجرعة الثانية علي الكارت المقوي الذي استلمته عند استكمال التسجيل ثم شرحت لي انه يجب ان أتوجه لنفس المركز ومعي الكارت والنسخة الأخرى من ورقة الأسئلة لتلقي الجرعة الثانية في موعدها… يعني دخلت ومعايا فقط رسالة نصية علي المحمول وخرجت ومعايا كارت وورقة وسلملي علي التحول الرقمي يا وزارة الصحة…..
أكيد أي data scientist او مهتم بالذكاء الاصطناعي هيجيله ذبحة صدرية وهو يقرأ هذا الكلام من كم الفرص الضائعة التي سوف تفوت الحكومة المصرية والقطاع الصحي المصري من جراء اقتصار الرقمنة فقط علي التسجيل في مشروع يخاطب الملايين من المصريين مثل هذا… علما بأن خطوات استكمال رقمنة الإجراءات كلها بسيطة جدا وامكانياتها متوافرة دون ادني شك في وزارة الصحة وحتي اذا كان بعضها غير متوافر فتكلفتها لا تذكر امام العائد الذي سوف يعود علينا جميعا من هذا الكم الضخم من المعلومات التي يمكن ان نحصل عليها….
ماذا سوف يكلفنا تركيب منظومة تحديد دور اليكتروني في مراكز التطعيم مثل تلك الموجودة في أصغر فرع من فروع شركات الاتصالات؟
ماذا سوف يكلفنا لو ان الطبيب بدلا من كتابة استمارات يدوية كان ناقش هذه الأسئلة إلكترونيا وامامه لاب توب مع المريض وحصل علي الإجابات وسجلها فورا علي الحوسبة السحابية؟ ويمكن هنا طبعا لو هناك ابتكار وتفكير علمي اضافة نظام ذكاء اصطناعي بسيط يساعد الطبيب في تحديد نوع التطعيم إلكترونيا علي ان يتم تغذية هذا النظام بأحدث المعلومات الطبية عن مضاعفات اللقاحات التي تتغير كل يوم حسب تجارب العالم… ثم كيف يمكن ان نضيع فرصة عظيمة مثل هذه لتكوين ملف طبي متكامل Electronic Patient file لكل من يأخذ اللقاح؟ لو تمت رقمنة العملية كلها لوجد الطبيب وقتا كافيا لقياس ضغط المريض ونبضه وفحصه فحصا ظاهريا و اخذ حالة مرضية كاملة منه clinical history بدلا من الاقتصار علي أسئلة بسيطة و كان يمكن تسجيل كل هذا أيضا إلكترونيا علي الفور علي الحوسبة السحابية وتصور اهمية البيانات والإحصائيات التي يمكن استخرجها من مثل هذا الكم الضخم من المعلومات من ملايين المصريين؟
منطق غريب جدا ان نبدأ عملا عظيما مثل هذا بمنتهي الروعة ثم نقلبه يدويا في لحظة الحصاد بدون ادني مبرر اللهمإلا وكما قلت انه لا توجد إرادة سياسية حقيقية لرقمنة الاعمال عند متخذ القرار…كيف يمكن تصور ان مشروعا قوميا يخاطب ملايين المصريين بل لعله اضخم مشروع صحي مصري في القرن الحديث يتم التعامل معه بهذه الخفة وبدون أي رغبة حقيقية في الحصول علي معلومات كاملة في الوقت الذي يتعامل العالم كله مع المعلومات والبيانات علي انها اهم واقيم كنز فكل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العالم تعتمد اعتمادا اساسيا علي توافر كم ضخم من المعلومات والبيانات التي يتم تدريب أنظمة ال machine learning عليها فكيف حالنا ونحن نترك كنزا من المعلومات والبيانات الصحية الهامة يسترب من بين أيدينا دون أي سبب.
يبدو أن أهمية تكنولوجيا المعلومات في بلادنا تقتصر فقط في حقيقة الامر على الوجاهة والمنظر العام وعلي من لا يصدقني ان يتوجه بنفسه لأي إدارة مرور ويشاهد كيف تحولت تكنولوجيا المعلومات علي يد البيروقراطية المصرية العتيدة الي مجرد خطوة من اجل طباعة التراخيص لا اكثر ولا اقل.
أرجو أن ينتبه القائمون علي مشروع التطعيم ضد فيروس كورونا الي ما رصدته من رقمنة ناقصة للمشروع يمكن تداركها بمنتهي السهولة مما يعظم من النتائج المرجوة من هذا المشروع الكبير.