
يثير الانتشار المتسارع للذكاء الاصطناعي تساؤلات عميقة حول مستقبل التفكير البشري، وحدود الاعتماد على التكنولوجيا في اتخاذ القرارات اليومية والمصيرية.
وبحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية؛ فإنه مع دخول الخوارزميات في تفاصيل الحياة، من التنقل والكتابة إلى العلاقات الشخصية والاختيارات السياسية، يزداد الجدل حول ما إذا كان الإنسان يعزز قدراته العقلية أم يتنازل عنها تدريجيًا لصالح الآلة.
ويستحضر هذا النقاش أفكار الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي عرّف عصر التنوير بأنه خروج الإنسان من حالة القصور العقلي الناتج عن الاعتماد على توجيه الآخرين بدل استخدام العقل الذاتي.
وتضيف الصحيفة البريطانية: “فبعد أن تحرر الإنسان تاريخيًا من سلطة رجال الدين والملوك بوصفهم مرجعيات مطلقة، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يفرض نفسه اليوم كسلطة جديدة صامتة توجه التفكير والسلوك”.
ومنذ إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وعلى رأسها ChatGPT، شهد استخدامها توسعًا هائلًا؛ فقد أظهر استطلاع عالمي نُشر في أبريل أن 82% من المشاركين استخدموا الذكاء الاصطناعي خلال الأشهر الستة السابقة، فيما تشير بيانات شركة OpenAI إلى أن نحو 73% من الطلبات لا تتعلق بالعمل، بل بقرارات حياتية وشخصية.
كما أصبحت الكتابة واحدة من أبرز استخدامات هذه الأدوات، ما يطرح تساؤلات حول تأثير ذلك على التفكير النقدي والقدرة على التعبير الذاتي.
وفي دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دعمت هذه المخاوف، إذ أظهرت أن المشاركين الذين اعتمدوا على الذكاء الاصطناعي في كتابة المقالات سجلوا أدنى مستويات النشاط الذهني، مقارنة بمن استخدموا محركات البحث أو لم يعتمدوا على أي أدوات رقمية.
كما لاحظ الباحثون ميلًا متزايدًا لدى هذه الفئة إلى نسخ النصوص بدل صياغتها، ما يعكس تراجعًا في الجهد العقلي بمرور الوقت.
ويرى باحثون أن جاذبية الذكاء الاصطناعي تكمن في سهولته وقدرته على توفير الوقت والجهد، فضلًا عن كونه وسيلة للتخفف من عبء اتخاذ القرار.
ويعيد هذا الطرح إلى الأذهان أفكار عالم النفس إريك فروم، الذي اعتبر أن بعض المجتمعات تفضل التخلي عن الحرية مقابل الشعور بالأمان، وهو ما يعيد إنتاج نفسه اليوم في صورة الاعتماد المفرط على الخوارزميات.
ورغم القدرات الفائقة للذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة ومعالجتها بسرعة غير مسبوقة، يحذر خبراء من كونه يعمل كـ”صندوق أسود”، إذ ينتج نتائج دون شفافية كاملة في آليات التفكير أو إمكانية التحقق من منطقها، ما يجعل الاعتماد عليه أقرب إلى الإيمان منه إلى العقل النقدي الذي بشّر به عصر التنوير.
في المقابل، يؤكد مختصون أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة داعمة للعقل البشري إذا استُخدم في مجالات تتطلب كفاءة تقنية عالية، مثل البحث العلمي أو الأعمال الروتينية، دون أن يحل محل التفكير الإنساني؛ فالتفكير النقدي، بما يحمله من شك ونقاش واختلاف، يبقى أساس الحرية الفردية وبناء المجتمعات الديمقراطية.
ويبقى التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو إيجاد توازن دقيق بين الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، والحفاظ على استقلالية العقل البشري ودوره المركزي في الفهم واتخاذ القرار، وهو تحدٍ يُنظر إليه على أنه أحد الأسئلة المفصلية في القرن الحادي والعشرين.




