
شهدت أسواق المال خلال عام 2025 موجة بيع قوية لأسهم شركات يُنظر إليها على أنها الأكثر عرضة لفقدان دورها التقليدي بسبب التسارع الكبير في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفي مقدمتها وكالات الإعلان.
وعكس هذا التراجع مخاوف المستثمرين من أن تؤدي الأتمتة وتوليد المحتوى آليًا إلى تقليص الحاجة إلى كثير من الخدمات الإبداعية والبشرية التي شكّلت لعقود جوهر عمل هذه الشركات.
وكانت شركة “دبليو بي بي” البريطانية أبرز المتضررين، بعدما فقد سهمها نحو 60% من قيمته منذ بداية العام، على خلفية خسارة عقود رئيسية وتزايد الشكوك حول قدرتها على التكيّف مع التحولات الرقمية.
وفي المقابل، تكبدت شركات منافسة مثل “بوبليسيس غروب” و“أومنيكوم” خسائر أقل حدة، لكنها لم تسلم من الضغوط نفسها، في ظل قناعة متنامية بأن الذكاء الاصطناعي قد يحل محل جانب كبير من العمل اليدوي في صناعة الإعلان.
ورغم هذه الصورة القاتمة، بدأ اتجاه تحليلي مغاير في الظهور؛ فبعض الخبراء يرون أن وكالات الإعلان قد لا تكون ضحية هذا التحول بقدر ما يمكن أن تصبح أحد المستفيدين منه.
ويستند هذا الرأي إلى أن العلامات التجارية الكبرى تواجه اليوم بيئة إعلامية شديدة التعقيد، متعددة القنوات والمنصات، ما يزيد حاجتها إلى خبرات قادرة على إدارة هذا التشابك بكفاءة؛ وقد انعكس هذا التفاؤل جزئيًا في ارتفاع توصيات الشراء لأسهم “بوبليسيس” و”أومنيكوم” إلى مستويات لم تُسجل منذ سنوات.
وقال محلل “مورنينغ ستار” مارك غياريللي إن القطاع يمر بمرحلة اضطراب عميقة، لكنه لا يواجه الإقصاء الكامل من المشهد، معتبرًا أن هذه النقطة هي الأكثر أهمية في فهم مستقبل الصناعة.
وأضاف أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل أدوات العمل، لكنه لا يلغي الحاجة إلى التفكير الاستراتيجي.
وساهمت الطفرة الأخيرة في أدوات توليد المحتوى، مثل “نانو بانانا” من “غوغل” و”سورا 2″ من “أوبن إيه آي”، في تعزيز هذه المخاوف؛ فقد بات بالإمكان إنتاج صور ومقاطع فيديو عالية الجودة اعتمادًا على أوامر نصية فقط، وهو ما دفع شركات كبرى مثل “كوكاكولا” إلى عرض إعلانات تلفزيونية مُنتجة بالذكاء الاصطناعي للعام الثاني على التوالي.
وفي الوقت نفسه، تتعرض الوكالات لضغط متزايد من عمالقة التكنولوجيا، وفي مقدمتهم “ألفابت” و”ميتا”، اللتان أطلقتا أدوات تتيح للعلامات التجارية تصميم حملاتها الإعلانية بنفسها دون الحاجة إلى وسطاء.
وغذّى هذا الواقع القلق من توجه الشركات إلى بناء فرق تسويق داخلية، وقد عززت هذا المخاوف خطوة شركة “بالو ألتو نتوركس” التي أعلنت في سبتمبر تطوير حملة إعلانية كاملة داخليًا دون الاستعانة بأي وكالة خارجية.
ومع ذلك، يرى محللون أن هناك أدوارًا لا تستطيع منصات التكنولوجيا العملاقة تعويضها بسهولة؛ فبحسب غياريللي، لا يمكن لـ”غوغل” أو “ميتا” مساعدة الشركات على توزيع ميزانياتها الإعلانية بذكاء بين مختلف القنوات، أو منع التداخل والتكرار في الإنفاق بين منصات متعددة مثل “إنستغرام ريلز” و”غوغل سيرش”.
ويؤكد أن وكالات الإعلان تمتلك خبرة طويلة في تحليل بيانات سلوك المستهلكين تعود جذورها إلى عقود مضت، ما يمكّنها من تصميم رسائل تسويقية أكثر دقة وفعالية.
وتزداد أهمية هذا الدور مع تعقّد المشهد الإعلاني، خاصة مع توقعات بأن يتيح الذكاء الاصطناعي مستقبلًا إنتاج محتوى رقمي مخصص لكل مستهلك تقريبًا وبشكل فوري.
ويرى محلل “بلومبرغ إنتليجنس” ماثيو بلوكسهام أن هذا التعقيد سيخلق حاجة أكبر إلى الإرشاد الاستراتيجي، سواء على مستوى الرؤية التسويقية العامة أو اختيار الوسائط المناسبة.
ويتقاطع هذا الرأي مع تحليل “جيه بي مورغان تشيس”، حيث يشير المحلل دانيال كيرفن إلى أن انخفاض تكاليف الإنتاج بفضل الذكاء الاصطناعي قد يدفع العلامات التجارية إلى زيادة إنفاقها الإعلاني، بدلًا من تقليصه.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أثر هذه المخاوف على تقييمات القطاع؛ فقد تراجع مكرر الربحية المستقبلي لشركة “دبليو بي بي” إلى أدنى مستوى في تاريخها، فيما يقترب تقييم “أومنيكوم” من مستوياته المتدنية منذ عام 2020، بينما لا يزال تقييم “بوبليسيس” قريبًا من متوسطه خلال العقد الماضي.
وتبقى بعض الشركات أكثر عرضة للضغوط من غيرها؛ فـ”دبليو بي بي”، على سبيل المثال، خفضت توقعاتها مرتين هذا العام بعد خسارة عملاء بارزين، ومن المرجح أن تغادر مؤشر “فوتسي 100” للمرة الأولى منذ 27 عامًا.
ويختصر محلل “ويدبوش سيكيوريتيز” جويل كولينا المشهد بالقول إن وكالات الإعلان تجد نفسها اليوم في معركة بقاء داخل عالم تقوده التكنولوجيا الرقمية، ما يجعل الاندماج والتكيف خيارين لا مفر منهما.




