
يشهد قطاع الإعلام والترفيه العالمي واحدة من أكبر صفقاته المحتملة، مع تقدّم نتفليكس بعرض للاستحواذ على وورنر براذرز ديسكفري، في خطوة قد تعيد رسم خريطة صناعة المحتوى والترفيه.
وإنْ تمّت الصفقة، ستجمع أكبر منصة بث في العالم مع أحد أعرق استوديوهات هوليوود المالكة لمكتبات ضخمة من الأفلام والمسلسلات والعلامات التجارية الشهيرة، ما يفتح الباب أمام تحولات كبرى في المنافسة، ونماذج الإنتاج، ومستقبل التلفزيون والسينما في عصر البث الرقمي.
ويخشى كثيرون في قطاع الترفيه أن تسير هذه الصفقة على خطى عمليات استحواذ سابقة أدت إلى تسريحات واسعة للوظائف وتراجع عدد المشترين للمشاريع التلفزيونية والسينمائية.
وبحسب “فاينانشال تايمز”؛ فإن يأتي ذلك في وقت تعاني فيه الصناعة أصلاً من انخفاض عدد المشاريع وضعف الإنفاق، في أعقاب انفجار فقاعة البث في عام 2022 والتباطؤ الذي أعقب إضرابات كتّاب وممثلي هوليوود، وقد فقدت هوليوود بالفعل عشرات الآلاف من الوظائف منذ عام 2020.
وتصل المعركة حول أكبر صفقة استحواذ هذا العام إلى ذروتها، مع احتدام التنافس على شركة وورنر براذرز ديسكفري، حيث كانت نتفليكس أول من تقدّم بعرض استحواذ بقيمة 83 مليار دولار على أصول البث والاستوديوهات التابعة لـWBD، متفوقة على كومكاست وباراماونت في حرب مزايدات انطلقت في أكتوبر، لكن باراماونت ردّت بعرض عدائي بقيمة 108 مليارات دولار، بالشراكة مع صناديق ثروة سيادية من الشرق الأوسط، بحسب “فاينانشال تايمز”.
وتوفر السعودية وأبوظبي وقطر تمويلًا بقيمة 24 مليار دولار لدعم العرض المنافس لعرض نتفليكس للاستحواذ على WBD.
نمو المشاهدة العالمية
وبحسب موقع إحصائيات شهد عام 2025 تحولًا متسارعًا في عادات المشاهدة الرقمية، مدفوعاً بانتشار الهواتف الذكية وتطور شبكات الجيل الخامس حيث بات المستخدم يفضّل استهلاك محتوى سريع ومتنقل بدلاً من الالتزام بمشاهدة برامج طويلة.
وتُظهر الأرقام أن 65% إلى 70% من إجمالي وقت مشاهدة الفيديو اليومي على الهواتف الذكية بات مخصصًا للمقاطع التي تقل مدتها عن 60 ثانية، كما كشفت تقارير يناير 2025 أن عدد المشاهدات اليومية لمقاطع YouTube Shorts تجاوز 60 مليار مشاهدة عالميًا.
ورغم هذا التفوق، لم يختفِ المحتوى الطويل بالكامل، بل أصبح أكثر تخصصًا؛ فالمحتوى الطويل اليوم يُستهلك في سياقات مركزة مثل التعليم والدورات التدريبية والأفلام الوثائقية.
ويشير موقع إحصائيات إلى انَّ بيانات 2025 كشفت عن ارتفاع واضح في ظاهرة استنزاف الاشتراكات بخدمات البث، فرغم أن متوسط عدد الاشتراكات المدفوعة للفرد تجاوز 4 اشتراكات في الأسواق الرئيسية، فإن معدل الاستنزاف السنوي بلغ نحو 40% في الأسواق المتقدمة، كما واصل البث المباشر صعوده كقوة ترفيهية وتجارية، حيث نما سوق البث المباشر – خاصة في الألعاب الإلكترونية والتجارة المباشرة – بنسبة تجاوزت 25% خلال عام 2025.
واستمر التراجع في المشاهدة التلفزيونية الخطية، خصوصًا بين فئة الشباب، وتشير تقديرات “نيلسن” إلى أن نسبة مشاهدة التلفزيون التقليدي لدى الفئة العمرية 18–35 عامًا انخفضت بنسبة تتراوح بين 15% و20% لصالح منصات البث والخدمات الرقمية.
المشاهدة عبر المنصات الرقمية
بينما في تقرير “وي آر سوشيال” الصادر في يوليو 2025 فإنَّ الأفراد يقضون في المتوسط 11 ساعة و39 دقيقة أسبوعيًا في مشاهدة مقاطع الفيديو عبر منصات مثل يوتيوب وتيك توك، مقابل 10 ساعات و15 دقيقة لمشاهدة التلفزيون عبر البث الأرضي والقنوات المدفوعة وخدمات البث مثل نتفليكس، وبذلك، أصبح الناس يقضون وقتاً أطول بنحو 14% في استهلاك الفيديو عبر الإنترنت مقارنة بمشاهدة التلفزيون.
الإنتاج السينمائي عالميًا
ولم يتعافَ إنتاج الأفلام عالميًا من التراجع الذي سببه جائحة كورونا فحسب، بل بلغ مستويات قياسية جديدة، فما قبل الجائحة 2019 تم إنتاج نحو 9,328 فيلم على مستوى العالم، لكنّ هذا الإنتاج تراجع بشكل حاد خلال 2020 حيث وصل إلى 5,656 فيلم.
وفي 2023، شهد الإنتاج انتعاشًا قويًا ليصل إلى مستوى تاريخي بلغ 9,511 فيلم، بزيادة قدرها 2% مقارنة بذروة عام 2019.
وتتصدّر الهند الدول الرائدة في الإنتاج السينمائي بإنتاج يزيد على 2,500 فيلم سنويًا، أي أكثر من ثلاثة أضعاف أقرب منافسيها، وفي عام 2023، رفعت الصين إنتاجها بشكل ملحوظ إلى 792 فيلمًا، متجاوزة الولايات المتحدة التي بلغ إنتاجها 510 أفلام.
الاستثمارات في قطاع السينما
وتتجه الاستثمارات في قطاع السينما عالميًا نحو الابتكار وتنويع الأسواق وتعزيز القيمة المضافة لتجربة المشاهدة داخل صالات العرض، في ظل سعي الصناعة إلى استعادة زخمها ومواكبة التحولات في سلوك الجمهور.
وبحسب التقديرات، يُتوقع أن ينمو سوق السينما العالمي من نحو 89.3 مليار دولار في عام 2025 إلى أكثر من 127.8 مليار دولار بحلول 2033، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 4.59%.
وتشهد مناطق مثل أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط – ولاسيما السعودية بعد رفع الحظر عن دور السينما – إضافة إلى أفريقيا، تدفقات رأسمالية متزايدة نحو البنية التحتية السينمائية وإنشاء مراكز محلية لإنتاج المحتوى.
منطقة الشرق الأوسط
ويمكن الاستشهاد في السعودية ومنطقة الشرق الأوسط، بإطلاق صندوق Big Time السعودي لدعم الإنتاج السينمائي العربي، والذي أعلن فور إنشائه تمويلًا لـ16 فيلمًا جديدًا في مرحلته الأولى بميزانية تصل إلى 4 مليارات جنيه مصري.
ويعد الصندوق، الذي ترعاه الهيئة العامة للترفيه بشراكة مع وزارة الثقافة وعدد من الشركات المتخصصة، منصة للاستثمار في الأفلام السعودية والخليجية والعربية، مع التركيز على تعزيز جودة الإنتاج وتنويع المحتوى.
وكان نتاج هذا الصندوق فيلم “ولاد رزق 3″، وفيلم “الست” عن حياة كوكب الشرق أم كلثوم، بطولة منى زكي وتأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، إضافة إلى فيلم “شغل كايرو” الذي يمثل أولى بطولات الفنانة اللبنانية نانسي عجرم السينمائية إلى جانب كريم عبد العزيز، من تأليف مصطفى صقر وإخراج محمد شاكر.
ويرى البعض أنَّ الصندوق سيشجع شركات الإنتاج على الاستثمار في أفلام ضخمة ومتنوعة، بالإضافة إلى دعم المواهب الجديدة، إلى جانب الإنتاجات الناجحة بالفعل، بما يسهم في تنشيط الحركة السينمائية العربية وفتح آفاق للتعاون بين مصر والسعودية.
كيف ستتغير عادات المشاهدة؟
وتعاني WBD من تراجع الإيرادات، وسجلت خسائر في أحدث ربع مالي نتيجة الانخفاض في أعمال التلفزيون الخطي، ومع ذلك، يرى التنفيذيون في قطاع الترفيه فرصًا واعدة في نشاط البث الذي يضم منصة HBO Max، إضافة إلى قطاع الاستوديوهات الذي ارتفعت إيراداته بنسبة 24% في الربع الأخير بفضل النجاح الكبير لفيلم Superman.
وبينما يتنافس كبار اللاعبين في عالم الترفيه والمال والسياسة العالمية على الاستحواذ على أحد أكثر الاستوديوهات وخدمات البث شعبية في هوليوود، تستعد الصناعة لمواجهة تحديات صعبة بغض النظر عن الجهة التي ستؤول إليها ملكية WBD.
وبحسب منصّة “ديدلاين” فإنَّ إحدى أهم القضايا المهمة تتمثل في الفروق الفلسفية بين نتفليكس ووارنر بروس، والتي تتعلق بنهج كل شركة في صناعة المحتوى.
ومنذ دخول نتفليكس مجال الإنتاج الأصلي، كان نموذجها يعتمد على الحقوق الحصرية؛ فهي تنتج المسلسلات والأفلام لتكون متاحة فقط على منصتها، ولا تقوم بتوريد محتواها لمنصات أو شبكات أخرى.
وفي المقابل، كان استوديو وارنر بروس تي في يعمل كاستوديو مستقل رئيسي يزود مختلف الشبكات والمنصات بمحتوى متنوع، بما في ذلك منافسين محتملين لنتفليكس، مثل Apple TV+.
أمَّا بالنسبة للأفلام، فقد أحدثت نتفليكس ثورة في توزيع المحتوى السينمائي عبر كسرها للنظام التقليدي للعرض في دور السينما، والرئيس التنفيذي تيد ساراندوس وصف تجربة الذهاب للسينما بأنها “قديمة الطراز بالنسبة لمعظم الناس”.
وأشار إلى أن نتفليكس تركز على نوافذ عرض أقصر تجعل الأفلام متاحة بشكل أسرع على المنصة الرقمية، مع الحفاظ على بعض العروض الحصرية في صالات محدودة لفترة قصيرة.
ويعكس هذا الاختلاف الفلسفي بين الشركتين أيضًا ثقافات عمل مختلفة؛ فنتفليكس تتميز بسرعة اتخاذ القرارات واستراتيجية عالية المخاطرة، بينما مر استوديو وارنر بروس بتقلبات عديدة على مدار العقود، ما جعل ثقافته أكثر اعتيادية وتقليدية مقارنة بالبيئة المكثفة والمندفعة لنتفليكس.
ومع هذه الصفقة، ستصبح نتفليكس للمرة الأولى في موقع يسمح لها بإمداد محتوى لشركائها أو حتى منافسيها عبر استوديو WBTV، وهو ما يمثل تغييرًا جذريًا في نموذج عملها الحالي ويضعها أمام تحدي التوفيق بين فلسفتها القائمة على الحصرية ورغبة الشركاء في الاستفادة من مكتبة وارنر بروس الغنية.




