
شهد عالم العمل تحولات جذرية خلال السنوات الخمس الماضية؛ فقد أطلقت جائحة كورونا مرحلة جديدة من أنماط العمل عن بُعد والعمل الهجين، وأعادت رسم ملامح العلاقة بين الموظف ومكان العمل.
وفي الوقت نفسه، أصبحت موضوعات كانت تُعد في السابق من المحرمات داخل بيئات العمل، مثل الصحة النفسية وتداخل الحدود بين الحياة المهنية والشخصية، قضايا أساسية على أجندة أصحاب العمل.
كما لم يعد سن التقاعد التقليدي عند 65 عاماً يمثل نهاية المسار المهني لكثيرين، إذ يواصل عدد متزايد من الأشخاص العمل بعد هذا العمر، ما أدى إلى وجود خمس أجيال مختلفة تعمل جنبًا إلى جنب داخل المؤسسات، لكل منها أساليبه وتوقعاته المختلفة في العمل والإدارة.
وخلال العقدين المقبلين، يُتوقع أن يشهد عالم العمل تغيرات أكثر عمقًا وتأثيرًا، سيكون الذكاء الاصطناعي المحرك الرئيسي لها؛ فقد بدأ بالفعل في أداء مهام كانت تُسند تقليديًا إلى خريجي الجامعات الجدد في العديد من التخصصات.
كما سيؤثر الذكاء الاصطناعي في أدوار المديرين، وفي كيفية قياس المؤسسات لنتائج الأعمال، إضافة إلى تسريع إنجاز مهام كانت تستغرق في السابق أشهراً طويلة.
وفي ضوء هذه التحولات المتسارعة، طرحت صحيفة “واشنطن بوست” السؤال على خمسة من خبراء وممارسي شؤون العمل: كيف سيبدو مستقبل العمل خلال العقدين المقبلين؟
البيانات ثم البيانات ثم المزيد من البيانات
تقول كارا برينان ألامانو المديرة السابقة لشؤون الموارد البشرية في شركة Lattice المتخصصة في برمجيات الموارد البشرية، والمؤسسة المشاركة لمجموعة People Tech Partners إنَّ قدرات القياس التي يوفرها الذكاء الاصطناعي ستُحدث تحولًا جذريًا في الطريقة التي يقود بها القادة الأداء داخل المؤسسات؛ فما يتم قياسه يمكن التأثير فيه، وهناك ارتباط موثق ومدروس جيدًا بين رفاه الموظفين ومستوى أدائهم.
وأضافت: “بدلًا من الاعتماد فقط على البيانات التي يصرّح بها الموظفون بأنفسهم أو على استطلاعات الرأي وقياس المشاعر، سنبدأ في رؤية مؤشرات فورية وفي الوقت الحقيقي تغطي تجربة الموظف بالكامل”.
واستطردت: “وسيسمح ذلك بفهم أعمق لكيفية عمل الأفراد ساعة بساعة، ومع من يتعاونون لتحقيق النتائج، وما إذا كان الوقت أو الموقع يؤثران فعليًا في مستوى الأداء، بل وحتى كيفية انعكاس أنماط التواصل ومستويات التأثير بطرق ترتبط مباشرة بالنتائج”.
وطرحت تخيلًا يتمحور حول: معرفة أن إحدى موظفات المبيعات تحقق أفضل أداء لها بين الساعة 3:15 عصرًا و7 مساءً في نيويورك، في حين أن أحد زملائها في البرتغال يصل إلى ذروة إنتاجيته خلال ساعات مكملة لذلك التوقيت، ويمكن للأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي الكشف عن مثل هذه الأنماط من خلال تحليل المخرجات وجودة العمل وتأثيره على المبيعات، بل ودمج بيانات اختيارية تتعلق بالصحة والرفاه يختار الموظفون مشاركتها طوعًا من أجهزتهم الشخصية”.
وختمت بالقول: “بالاستناد إلى هذه الرؤى، يمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي مواءمة تدفقات العمل بما يتناسب مع الإيقاع الطبيعي لكل فرد، ما يخلق تعاونًا عالي التأثير وأكثر كفاءة”.
قوة عاملة آخذة في الانكماش
بينما يرى بيتر فاسولو نائب الرئيس التنفيذي والمدير السابق للموارد البشرية في شركة جونسون آند جونسون، ومدير معهد سياسات الموارد البشرية في كلية كويستروم لإدارة الأعمال بجامعة بوسطن أنّه “خلال العقدين المقبلين، سيشهد كل من أوروبا واليابان والولايات المتحدة تراجعًا في أعداد القوى العاملة المتاحة، وسيكون التحول الديموغرافي عميق الأثر”.
وأضاف: “سيقل عدد الشباب المؤهلين للالتحاق بالجامعات في الولايات المتحدة بشكل أكبر، حتى في حال قرروا أن الاستثمار في التعليم الجامعي لا يزال مجديًا، وستترتب على هذا التحول تداعيات واضحة، أبرزها الحاجة إلى زيادة الاستثمارات في التعليم المهني والمدارس الحرفية، إلى جانب التحول نحو التدريب القائم على المهارات بدلًا من الاعتماد على الخلفيات الأكاديمية أو السمعة التعليمية”.
بحسب فاسولو “ستزداد أيضًا أهمية التدريب المتخصص داخل مواقع العمل نفسها؛ فستتحول الشركات إلى ما يشبه الفصول الدراسية، حيث تصبح بيئات العمل منصات للتعلم المستمر؛ أمّا الشركات التي تسعى إلى بناء علاقة أكثر استدامة مع موظفيها، فستحتاج إلى اعتماد نموذج استثماري بدلًا من نموذج قائم على المعاملات قصيرة الأجل، يقوم على مبدأ: نحن نستثمر في مهاراتك كي تصبح محترفاً قادراً على المنافسة في مجالك.
الذكاء الاصطناعي زميلي في العمل
ويرى آلان غوارينو نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لخدمات مجالس الإدارات في شركة كورن فيري العالمية للاستشارات أنَّه بعد 25 عامًا، من المرجح أن يصبح مكان العمل على نحو يصعب التعرف عليه مقارنة بما نعرفه اليوم، حيث سيعمل الموظفون والذكاء الاصطناعي كوحدة واحدة.
وأضاف: “صحيح أن الذكاء الاصطناعي سيتولى تنفيذ مهام، بل ووظائف كاملة، إلا أن البشر في المقابل سيُمنحون قدرات جديدة تمكّنهم من اتخاذ قرارات حاسمة وإبداعية على مستوى غير مسبوق، كما سيبدو مفهوم إنجاز العمل حصريًا بواسطة البشر فكرة قديمة الطراز بالنسبة للبعض”.
وأشار إلى أنَّ “المهام التي كانت تتطلب فرق عمل كاملة وأشهرًا طويلة لإنجازها، ستُختصر إلى دقائق معدودة، وسيُقاس النجاح وفق مؤشرات ومعايير قد لا يمكننا حتى تخيلها اليوم”.
وأوضح أنّ “الطبقات الوسطى من الإدارة، التي تشكل اليوم ركنًا أساسيًا في الهيكل المؤسسي للشركات، قد تصبح مجرد بقايا من الماضي”.
ويستطرد: “كما سيتغير دور القائد، ليشرف بشكل مباشر على تعاون يجمع بين البشر والأنظمة الذكية؛ وفي المقابل، تتنامى أهمية العمل والتعاون الحضوري، وبعد 25 عاماً، وعلى نحو قد يبدو غير بديهي، أعتقد أن التواصل وجهًا لوجه لن يكون مجرد ضرورة، بل قيمة عالية الأهمية”.
وختم غوارينو بالقول: “سيظل الذكاء العاطفي عاملًا حاسمًا يميز القادة عن غيرهم؛ فالقادة القادرون على المزج بين التعاطف والتمكن التقني هم من سيقودون تشكيل مستقبل العمل”.
قوة العاملين بنظام العمل الحر
ووفقًا لرافين جيسوثاسان شريك أول والقائد العالمي لخدمات التحول في شركة ميرسر للاستشارات فإنَّ “التطورات في الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي ستمكّن رواد الأعمال من إعادة تشكيل قطاعات كاملة باستخدام جزء بسيط من الموارد التي كانت مطلوبة تقليديًا في السابق”.
وأضاف: “بالطريقة نفسها، سيسهم إتاحة الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في تعزيز اقتصاد العمل الحر، ما يجعل من الأسهل على الشركات الاستعانة بمتعاقدين مهرة عند الحاجة؛ إذ أدت هذه الإتاحة الواسعة لأدوات الذكاء الاصطناعي إلى وضع بات فيه أصحاب المواهب يمتلكون في كثير من الأحيان أدوات أكثر قوة خارج إطار الشركات، كما أصبحوا أكثر تمكنًا في استخدامها”.
واستشهد بمثال قائلًا: “تميل الشركات التي تعتمد على حلول مايكروسوفت إلى حصر استخدام الذكاء الاصطناعي في أداة MS Copilot؛ نظرًا لحاجتها إلى تحقيق عائد على رسوم التراخيص التي تدفعها، وفي المقابل، يمتلك العامل الحر خيار استخدام مجموعة أوسع وكاملة من الأدوات والقدرات التي توفرها شركات مثل أوبن إيه آي أو جوجل أو أنثروبيك، وسيؤدي هذا التفاوت إلى تقديم قيمة أكبر من العاملين بنظام العمل الحر مقارنة بأي وقت مضى”.
صعود أصحاب المهارات العامة
ويرى جاوراف جوبتا المدير التنفيذي ورئيس قسم البحث والتطوير في شركة كوتر إنترناشيونال للاستشارات الإدارية، أنَّ “طبيعة العمل ستتجه نحو أدوار تعتمد على المهارات العامة، وتُقدّر القدرة على الربط بين الأفكار، والعمل عبر الأقسام التنظيمية المختلفة، وإظهار الإبداع في حل المشكلات”.
ويضيف: “ستتحول ممارسات الإدارة لتقلل من التركيز على التخطيط والتنبؤ، مقابل تعزيز مفاهيم المرونة والقدرة على التكيف، وسيؤدي ذلك إلى تراجع الحاجة إلى أدوار التخطيط الاستراتيجي والتخطيط التشغيلي والتحليلات التقليدية، مع ظهور أدوار جديدة في مجالات مثل نمذجة السيناريوهات وتفعيل التغيير”.
ويختم بالقول: “كما سنشهد زيادة في الاستثمارات الموجهة لبناء القدرات القيادية على نطاق واسع بين جميع الموظفين، بما يتيح اتخاذ قرارات سريعة وفعالة على أطراف المنظمة، وهو ما سيكون ضروريًا في هذه المرحلة الجديدة التي تتسم بالاضطراب والتغير المتسارع”.




