
باتت الرقائق الإلكترونية حجر الزاوية في الاقتصاد الرقمي العالمي، إذ يعتمد عليها تطور تقنيات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، المتوقع أن يُحدث تحولًا جذريًا في قطاعات مختلفة، من الرعاية الصحية إلى الأمن والدفاع.
ومع تزايد أهمية هذه التقنية، أصبحت الرقائق في قلب صراع جيوسياسي واقتصادي محتدم، تتنافس فيه القوى الكبرى على التفوق الصناعي والتكنولوجي.
وبحسب بلومبرج؛ فإنّه في السنوات الأخيرة، تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين للسيطرة على صناعة أشباه الموصلات، التي تُعد الأساس التقني لكل شيء، من الهواتف الذكية إلى مراكز البيانات العملاقة.
وبدأت واشنطن، التي لطالما قادت الابتكار في هذا القطاع، منذ إدارة الرئيس السابق جو بايدن بفرض قيود صارمة للحد من وصول بكين إلى أكثر الشرائح تطورًا.
وقد حافظ خلفه دونالد ترامب على تلك السياسات بل وسعى إلى تحويل شركة “إنتل” المتعثرة إلى “بطل قومي”، من خلال الاستحواذ على حصة فيها، بهدف منافسة العمالقة الآسيويين.
وفي المقابل، تواصل الصين ضخ استثمارات ضخمة في هذا القطاع، لتقليص اعتمادها على التكنولوجيا الغربية، وتعزيز قدراتها في تطوير معالجات ذكاء اصطناعي منافسة لتلك التي تنتجها شركات مثل “إنفيديا”.
وأصبحت الرقائق الإلكترونية – أو أشباه الموصلات – ضرورية لمعالجة البيانات التي باتت بمثابة “نفط العصر الرقمي”؛ وتُصنع هذه الرقائق من طبقات متناهية الصغر تُرسّب على أقراص سيليكون، وتؤدي وظائف حيوية داخل كل الأجهزة الحديثة، من الهواتف إلى السيارات، ومن الحواسيب إلى الطائرات.
وتتفرع هذه الصناعة إلى نوعين رئيسيين: رقائق الذاكرة، التي تُخزن البيانات وتُعامل كسلعة في السوق، ورقائق المنطق، التي تُعد أكثر تعقيدًا، وتقوم بتشغيل البرمجيات وتنفيذ الأوامر.
واليوم، بات الحصول على رقائق متطورة مثل مسرّعات الذكاء الاصطناعي من طراز H100 التي تنتجها “إنفيديا” أمرًا مرتبطًا بالأمن القومي، لما لها من أهمية في تشغيل مراكز البيانات الضخمة التي تبنيها شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “مايكروسوفت” و”ألفابت”.
ولم تعد تستغني حتى الأجهزة البسيطة عن هذه الرقائق؛ إذ تحتاج السيارات الحديثة، مثلًا إلى شرائح تتحكم في كل عملية إلكترونية داخلها، كما تعتمد الأجهزة التي تعمل بالبطاريات على رقائق لتنظيم تدفق الكهرباء بكفاءة.
وكشفت جائحة كورونا مدى هشاشة سلاسل توريد الرقائق، عندما أدّى تعطل الإنتاج في آسيا إلى أزمة عالمية طالت مختلف الصناعات، ورغم ريادة الولايات المتحدة في تصميم الشرائح؛ إلا أن التصنيع بات يتركز في تايوان وكوريا الجنوبية.
وفي المقابل، تُعد الصين أكبر مستهلك للرقائق في العالم، لكنها لا تزال تسعى لبناء صناعة محلية قادرة على تقليل تبعيتها للتكنولوجيا الغربية.
وفي هذا السياق، فرضت واشنطن قيودًا على صادرات الرقائق ومعدات تصنيعها، وأدرجت شركات صينية على “قائمة الكيانات” التي تتطلب موافقة حكومية أمريكية لأي تعامل معها؛ إذ تبرر الولايات المتحدة هذه القيود باعتبارات أمنية، إلى جانب اتهامات لبكين بانتهاك قواعد المنافسة العادلة.
وفي محاولة لإعادة التصنيع إلى الأراضي الأمريكية، خصصت إدارة بايدن تمويلًا ضخمًا لإنشاء مصانع داخل الولايات المتحدة؛ إلا أن ترمب عارض هذا التوجه، مفضلًا فرض رسوم جمركية لدفع الشركات الأجنبية إلى التصنيع محليًا بدلًا من تقديم حوافز مالية مباشرة.
ويتطلب تصنيع الشرائح المتطورة استثمارات هائلة تفوق 20 مليار دولار لبناء مصنع واحد، وتشغيله على مدار الساعة لضمان الربحية؛ ولهذا السبب، لا توجد سوى ثلاث شركات قادرة على إنتاج الرقائق الأحدث: “تي إس إم سي” في تايوان، “سامسونج” في كوريا الجنوبية، و”إنتل” الأمريكية.
وتعتمد الشركات الكبرى مثل “آبل” و”إنفيديا” و”أمازون” على قدرات “تي إس إم سي” و”سامسونج” في التصنيع، خصوصًا في الشرائح التي تُصمم في وادي السيليكون ويتم إنتاجها في آسيا.
أما في المستوى الأدنى من سلسلة التوريد، فتبرز شركات مثل “تكساس إنسترومنتس” و”إس تي مايكروإلكترونيكس” في إنتاج الرقائق التناظرية، التي تُستخدم في التحكم بالطاقة والحرارة داخل الأجهزة الذكية.
ويشكل هذا القطاع أيضًا أحد أهداف الصين التي تحاول اللحاق بالركب رغم الحظر الأمريكي على معدات الإنتاج.
وواجهت الشركات الصينية صعوبات كبيرة جراء العقوبات، لكن ذلك لم يمنعها من إحراز بعض التقدم؛ ففي 2023، طرحت “هواوي” هاتفًا ذكيًا يعمل بشريحة مصنعة محليًا بتقنية 7 نانومتر، وهو إنجاز اعتبره كثيرون دليلًا على تقدم الصين رغم القيود.
كما تعمل “هواوي” على بناء شبكة واسعة من منشآت التصنيع في أنحاء البلاد، وأعلنت عن خطة لتطوير شرائح الذاكرة ومسرّعات الذكاء الاصطناعي خلال ثلاث سنوات.
وفي الوقت ذاته، بدأت شركات ناشئة صينية مثل “ديب سيك” بتطوير نماذج ذكاء اصطناعي تُنافس من حيث الأداء ما تنتجه شركات أمريكية كبرى، وبتكلفة أقل.
وحافظت إدارة ترامب على نهج سلفه في تقييد وصول الصين إلى الرقائق، ودفعت الحلفاء مثل تايوان إلى اتخاذ خطوات مماثلة، عبر إدراج شركات صينية كبرى مثل “هواوي” و”إس إم آي سي” على القوائم السوداء.
كما منعت واشنطن بيع الرقاقة المعدلة “H20” من “إنفيديا” إلى الصين، رغم إعادة تصميمها لتجاوز القيود.
وفي خطوة مفاجئة، استحوذت الحكومة الأمريكية على نحو 10% من “إنتل”، بينما استثمرت “إنفيديا” 5 مليارات دولار في الشركة نفسها، في محاولة لإنقاذ المنافس المحلي وتعزيزه في مواجهة “تي إس إم سي”.
كما أطلق الاتحاد الأوروبي خطة استثمارية بقيمة 46 مليار دولار لتعزيز الإنتاج المحلي، بهدف مضاعفة حصته في السوق العالمية إلى 20% بحلول 2030، فالولايات المتحدة ليست وحدها في هذا السباق؛ ومع ذلك، تعثرت بعض المشاريع الكبرى مثل مصانع “إنتل” في ألمانيا وبولندا، بسبب أزمة مالية داخلية.
وخصصت اليابان وكوريا الجنوبية بدورهما مليارات الدولارات لدعم قطاع الرقائق، سواء عبر توسيع مصانع قائمة أو بناء أخرى جديدة، كما دخلت الهند أيضًا السباق بمشاريع استثمارية تقودها مجموعة “تاتا”، بينما تدرس السعودية إطلاق استثمارات كبيرة لدخول هذا القطاع في إطار رؤية تنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط.
ورغم كل هذه الجهود، يبقى الخطر الأكبر على سلسلة توريد الرقائق العالمية متمثلًا في التوتر السياسي حول تايوان؛ فاندلاع نزاع عسكري بين الصين والجزيرة قد يؤدي إلى عزل شركة “تي إس إم سي”، التي تُعد أهم منتج للرقائق المتقدمة في العالم، مما سيُحدث اضطرابًا غير مسبوق في قطاع التكنولوجيا العالمي.
وتُعد “تي إس إم سي” ركيزة أساسية في نموذج “المصانع الخارجية” المعتمد عالميًا، ومن خلال تعاونها مع عمالقة التكنولوجيا، باتت الشركة التايوانية تتفوق على “إنتل” من حيث الإيرادات والابتكار؛ لكن هذه المكانة الفريدة تجعلها أيضًا نقطة ضعف استراتيجية في حال تصاعدت التوترات الجيوسياسية.